و لِكُلٍ منا من اسمه نصيب


في هذا الفضاء الواسع لم نُخلق لنلتقي ، و في هذا الزمن ولدنا أنا وهي لنفترق .

من هي آية ؟ 

هي تلك الفتاة اللتي بكيت عندما افترقنا مع العِلم إنني لم أللتقيها يوماً و لم أعرفها و كان نبأُ رحِيلَها عن هذه الدُنيا هي لحظةُ التعارُف.

من هي آية ؟  

. هي تلك الفتاة اللتي أصبحتُ أُقلب أرشيِف تغريداتِها شبه يومياً

هل هي من محاسن الصُدف أم من مساوئ الصُدف أن أعرف شخصاً فقط لكي أحزن و أجزع ، لكي أعيش مرارة الفراق من غير لقاء.

في هذا التعداد البشري سبعة مليار و في هذه الأرض ٥١ مليار هكتار و زمن يتجاوز الأربعةَ مليارِ عام حُظوظ اللقاء صعبة و الله يُقدر لنا ما لا نستطيعُ أن نفهم.

لماذا أولد في هذا الزمان و هذا المكان وهذه العائلة و بين هذه الفئة من البشر بالتحديد في هذا الحيز الجُغرافي ليكون مُجتمعي و أتعرف على هؤلاء البشر بالتحديد ليكونوا عائلتي و أصدقائي.

أنا لم أختار و لم يختارَ غيِري بل هي أشبه بخُوارزِمية عظيمة لا يعلمُها إلا الله سُبحانهُ و تعالى.

و لماذا ألتقي آية ؟ هو سؤال أصعب من لماذا لم ألتقى آية ؟

أسئلةٌ كثيرة و تساؤلاتٌ أكبر تُراودُني كُلما فكرتُ أن أكتُب. 

و أُفكر لماذا أكتُبُ لآية ؟ هو سؤال أصعب من لماذا لا أكتُبُ لآية؟

الخوف من الفهم الخطأ و الكتابة الخطأ و الأفكار الخطأ دوماً تخطُرُ في بالي و أتمنى أن أَغلق الهاتف و أَلغي فكرة الكتابة كُلياً لآية. 

قد مضت أيامٌ و أشهرٌ كثيرة و أتخيلُ نفسي إنسانة جشعة فُضولية ،أصُبُ الزيتَ على النار عندما أذكُرها مرةً أُخرى و أزيدُ لوعات الأهل والأصدقاء و أُجدد لحظات الفُراق فأقف عن الكتابةِ أيام.

و أُفكر لماذا أهرُب ؟ لماذا لا أكتُبُ في وقتِ فراغي على هاتفي و تخرُج تلك الأفكار و تهدئُ نفسي و يستريحُ عقلي و أُنجز ذلك العمل لغاية الفعل لا لغاية الهدف و سواءٌ نشرتُها أم خبأتُها لنفسي لا ضرر ولا ضِرار فأكتُب مرة أُخرى.

لماذا ظل هذا الخوفُ يُراودُني حتى عندما قطعتُ وعداً على نفسي بأني سأحذف هذه المرثية عندما أنتهي منها و لن يقرأها أحدٌ غيري. 

هل هو الخوف من النهايات الغير محكية و من النهايات اللتي تنتهي سريعاً قبل أن تُكتب و مناجاةٌ مع الله لمُناقشة هذه الاقدار الغير مفهومه و خوفي من أن أُسيء خطابي مع الله سبحانه و تعالى يتفاقم كُلما أردتُ أن أكتُب.

لماذا لا يملُكِ البعض الوقتَ الكافي لكتابةِ قصته ؟

لماذا أخافُ أنا أيضاً من الوقت أن لا يُسعفني أن أكتُب و أُنهي هذه المرثية ؟

لماذا يضيقُ بنا الوقت ؟

 و لماذا يُسلب على حين غِره من بين أيدينا نحن أبناءُ هذه الأرض؟

حقٌ لنا أن يكون الوقتُ بلا حد نحنُ اللذين لم نكتُب قصصنا بعد.

و تظلُ تلك الأسئلة تُغرس في قلبي و عقلي و أتسائل عن هذه الأرض اللتي زُجِجِنا بها لنرى عوالم عجيبة غريبة تُفرق و تُوحد البشر على أُسُس نُسلم به ولا نعلم مدى أحقِيتها ، و لو بحثنا عنها لأفنينا أعماراً فوق أعمارَنا و لن نجد في النهاية إجابة شافية. و أتذكر مقولة الكاتب المسيري رحمة الله عليه ( لم نصنع هذا العالم ، صُنع في غيابِنا و للأسف صُنع قبيحاً على أُسس مادية )


و في أحد هذه العوالم نشأ عالم افتراضي علِمتُ عن طريقه نبأ رحيل آية عن هذه الدُنيا و أنا أحد مُستخدميه المتواضعين حيثُ أترُكُهُ أسابيع ولا يُهمُني أخبارُه ومآلاتُه و أدخُلُهُ لأُرفه عن نفسي و أستطلعُ أراء مُستخدميه في مجالات قد أهتم سطحياً و قد لا أهتم قطعياً بقضاياهُم لماذا يقشعرُ بدني اليوم و كُنتُ أظُن أنه عالمٌ سطحي يكثُر لغطُهُ و أحاديثهُ و أكاذيبهُ و يأمنُ الإنسان فيه من مُحيطه المُزيف حيثُ لا لقاء و لا أهتمام و لا تأثُر فعلي بل علاقة سطحية وكلامٌ لا يُأخذُ منه خيرٌ أو شر.

هل هذا العالم الافتراضي أقوى مما أظُن ، هل أفكارهُ تعيشُ طويلاً ، هل مستخدميهُ المتواضعين بهذه القوة ، هل كلماتُهُم قادرة على التغيير هل تُطبع خطواتُهُم على الزمن ، هل تؤثر صدى كلِماتُهُم على إيقاع الحياة هل هي قوة الكلمة واحدة في كُل زمان و مكان ولو اختلفت الطريقة و لكُل فِعل ردةُ فِعل مساوية لها ، هل لأقوالِهم تأثير قطعة الدومينو حيثُ من أصغر انهيار تنهارُ الجبالُ و الشواهق.

أم هو صورة و نبوءة عما أكون عليه أنا مُستقبلاً حساب اللكتروني مُهمل ما للذي أكتُبُهُ و كيف أكتُبُهُ و أنا أعلم إنني سأترُكُه طال الزمان أم قصِر ، هل لدي مُتسع من الوقت و كافي الخبرة و كافي الذكاء أن أكتُبُهُ جميلاً مُنمقاً ليعيش من بعدي لكي يذكُرنِي به بني البشر و هل سيهُمُ فعلاً ما يظُنُه الناسُ من بعدي. تُرى كم سيعيش هذا التطبيق ” تويتر ” ؟ مئة عام ، ألف عام تُرى هل سوف يذكُرهُ أبناءُ المستقبل بأن في غابر الزمان كان هُناك تطبيق مشهور يتواصل بِه بني البشر بعباراتٍ أو جُمل لا تتعدى ١٤٠ حرفاً ، هلا سيكون العالم المُستقبلي أذكي من أن يتذكرنا أو حتى يستهجنا أو يُطلق علينا “جيل الطيبين” أم سيكون عالم مُدمر و مُلوث ولن يكون قادر على تذكُر الماضي على الإطلاق و ستنقرض كُل تلك الذكريات و تندثر كما يندثر كُل شيءٍ على الأرض.

فجأة ومن غير سابق إنذار أتذكرُ أُمي ذات السبعين عاماً بروحها الخفيفة كروحِ طفل و مُزحاتها الكثيرة و صحتها العظيمة كنحله لا تقف عن الحركة و ذلك الوجه اللذي أزداد جمالاً مع هذا العُمر بشكلٍ عجيب اللذي لفت أنظار الجميع.

أُمي اللتي يظُنُ الجميع أنها كتبت قصتها كاملة في هذه الحياة ، تزوجت، أنجبت ، ربة منزل ممتازة ، أم رائعة ، طاهية ماهرة ، يداها المُباركة حاكت و خاطت الكثير من الأشياء الجميلة ، أحبت العمل و المشاريع الصغيرة و كانت من نُعومة أظافِرها تُحب أن تُعيل نفسها و من حولها ،أحبت القراءة حتى تعلمتها من غير مُعلم ، مُثقفة تميزت عن جميع أقرانها، مُتدينة و خلوقة لأبعدِ حد كانت أُم جميع من ألتقتهُم تسأل عنهُم كُل حين ، أحبت الحياة و لكنها عاشت للآخرة ، فتحت بيتها و قلبها للجميع و لم تبخل أبداً بما لديها

ذهبت على حين غِرة مع الذاهبين في هذا الوباء لو سُألت ماذا تُريد لخمنتُ أنا الإجابة بأني لم أكتُب قصتي بعد ، لم يُسعفني الوقت ،انتظروا قليلاً أُلملم حاجاتي المُتبقية و أظُمُ أحلامي المُبعثرة لعلي أستطيعُ أن أختِمَ قصتي و أمضي من هذه الدُنيا سريعاً.

لطالما راودتني في حياتي الكثير من الأحلام و الرؤى و لكن واحدة منهُم قضت مضجِعي و أقلقتني تلك الرؤية عندما أخبرني أبي المُتوفي رحِمةُ الله عليه بأن أُمك قد ماتت و إذا بي أصيحُ و أهُزُ يد أبي لعلهُ يُنبأُنيبأمرٍ أخر و إذا به يقول خلاص أمك ماتت “.”

استيقظت من ذلك الحلم مفزوعَة مُتروعِة أُناظرُ أُمي، هذه الإنسانة القوية الجميلة و أُخفي خَوفي و ترقُبي و آهاتي و ظُنوني و أتعلقُ بالأمل لعل رؤيتي حديثُ نفس و مخاوفَ عميقة على تلك الإنسانة العظيمة و ما هي إلا أضغاثُ أحلام و أُكذب أحاديث المفسرين بأن الميت في دار الحق و لا يُحدث إلا بالحق.

و إذا بقدوم ذلك الوباء و إصابةُ أُمي كانت في البداية ضاحكة مُتفائلةتُشاركنا الضحكات و المُزحات عما أصاب البيت و كيف لحِقنا بهذا الركب العالمي.

ما هي إلا أيامٌ قليله و تتدهور أُمي صحياً و جسدياً و ما هي إلا أيامٌ ثقيلةٌ أُخرى و تدخُلُ أُمي العناية المُركزة و يحذوا إخوتي الأمل برجوع أُمي إلا أنا يضيقُ صدري بما أرى من رؤى تُمهدُ لي رحيلها.

هل الأفضل أن أعلم ، أم لا أعلم؟

هل الأفضل أن أستعد ، أم لا أستعد؟

. مُقارنة مؤلمة و عقلي و صدري به يتمزق

و أطل الموتُ علينا ذلك الضيفُ الثقيل اللذي توقعتُ قُدُومهُ مُنذُ فترة و أخذ أُمي أجمل ما في حياتي تمالكتُ نفسي و لكن بأعماقي غضِبت و خنِقت ولو كان العالم كُرةُ زُجاج لكسرتُها و لو كان وردة لمزقتُها و لو كان حمامة سلام لقتلتُها ، لأول مرة اشتعلت نفسي شراً ، لأول مرة أغضب بهذا الكم.

. كُنتُ غاضبة و حقٌ على هذا العالم أن يغضب مع غضبي و يسمعُ صرخاتي و يقِفُ عند ألمي

غضِبت و سخِطت ما توقعتُ وما تخيلتُ يوماً أن تُفارق أُمي الدُنيا وحيدة في الحجر الصحي من دون أبنائها العشرة اللتي شقِيت و تعِبت في سبيلهُم ، لم نُقدم لها شيء وهي التي صنعت لنا المُستحيل.

وما هي إلا أيامٌ قليلة و أرى أُمي في منامي و قد سكنت مكاناً عظيماً بين المسجد و القصر و القُبب العظيمة تملأُ السقف و بالخارج تُحيط القصر الأشجارُ الضخمة الشاهقة بأوراقها الخضراء الكبيرة و الغيومُ تحجِب كُل ما هو أبعد و كُل الأوراق تُغطيها قطراتُ الندى الخفيفة ، و لأول مرة اشتمُ رائحة الغيم و أراهُ أمامي في كُل مكانٍ و زاوية و أُمسِكُه بين يدي ليتحول إلى قطرات ماء ، ولكن مع كُل تلك الغيوم المحيطة ظلت النسمات العليلة بلا انقطاع تُرافقنا من كل جانب.

هُناك ينعدم الظلام و الظلال وكُل ما يُخيف النفس.

 هُناك ينعدم السُطوع اللذي يؤذي العين و يؤرق النظر لا شيءٌ يُزعِجُ البصر و لكن ذلك النورُ الخفيف ينبثق من حولي كغِلافٍ أبيض حريري خفيف يُغلفُ كُل شيء.

 هُناك ينعدم الزمان لا صباح و لا مساء لا حُرور شمس و لا برد ليل و لا تستطيع أن تُخمن وصفاً لذلك الطقس الغريب. 

هُناك ينعدم الخوف و الفزع و ضوضاء الدُنيا و كُل صخب. 

هُناك فقط ترتاحُ النفس و كُلُ الحواس لا شيءٌ يُرهِقُ النظر و لا شيءٌ يُزعج السمع و لا شيءٌ يُجهد اللسان و ليس 

هُناك ما يُتعبُ القلب و العقل و الجسد.

 هُناك لا تُتعبُك الخطوات كأن أقدامك لا تُلامِسَ الأرض ، و إذا بنا نفتح صنابير المياه لينهمر ماءٌ مُتدفق شفاف برائحة المطر بلا هدير و لا صخب ماءٌ ينهمر بسهولة لتنظيف الأرض الحجرية اللتي لم أرى أنظف منها.

هُناك يُفعل الفعل ليس للغاية بل للعادة و ما تألفُهُ النفس لتستمتع الروح ،التنظيف ليس لغاية الطهارة بل لغاية الأُلفه و المُتعه و التعطُر ليس لغاية الرائحة الجميلة بل لغاية الأُنس .

كان المكان كاملاً و غريباً و لكن تنقُصُهُ الأشياءُ الدُنيوية و إذا بأُمي تفتح صناديقها للمُكوث و بها مصاحِفُها و كُتُبها و حاجاتُها الكثيرة و إذا بيأستيقظ من منامي و كُلي حسرة بأني لم أمكُث أطول و ظل ذلك المكان مطبوعاً في عقلي بكُل تفاصيله الغريبة.

لعل من يقول إن هذا حديثُ نفس و ردةُ فعل لهذا الفقد.

و لعلهُ يكون كذلك و أكثر ، لكن لا يُهِمُ ما يكون فعلياً حقيقة أم سراب أم أوهام أم حديثُ نفس ، ولو كان البعض يستسخف تمنياتي و أُمنياتي و إيمانياتي فلن أهتم و ما يُهِم فعلياً إنني كُلما أتذكر ذلك المكان تسعدَ روحي و تبتهج

و كُلما أتذكر ذلك المكان الجميل أصبحتُ أتذكر كُل أشيائي الجميلة اللتي ذهبت و أفتقدُها بين اللحين و الآخر و أصبحتُ أدعى ربي دوماً تلك القوة العظيمة الجبارة العجيبة اللتي خلقت كُل شيء أن يبعثها و يخلقها من جديد في تلك الحياة الأُخرى و إن وجدت أتمنى أن تكون في ذلك المكان مع كُل شيءٍ جميل تركنا سريعاً. 

كُلما أرى انفتاح الحياة من بعد أزمة كورونا تأخُذوني مشاعر الفرح و الغِبطة معاً ، نحن المكلُومين بِفقدِ الأحبة خِلال هذه الأزمة و دوماً أتسائل هل كان هُناك أمل لهم بالنجاة كما نجت هذه البشرية.

لم نكُن نُدرك حجم ذلك الفراغ اللذي خلفهُ رحيل أحبتنا فغريزةُ النجاة كانت تطغى على المُجتمعات حتى مجالس العزاء قد أُلغيت و التباعُد الاجتماعي في ذُروتِهِ.

 لم نُدرك ولم نستوعب حجم الخسارة فعلياً و لكن بعد انتهاء هذه الأزمة أصبحتُ أللتقي الناس فيسألوني عن أُمي و تُفاجئُني تِلك الأسئلة كأني أسمع خبر رحِيلها لأولِ مرة و يتقطعُ قلبي من جديد كأن أُمي تُوفيت مرة أُخرى

، لثواني أصمُت وأُمسِكُ عيني و قلبي لكي لا ينفجِرانِ دمعاً و دماً و أتمالكُ نفسِي لأُخبِرهُم بِرحِيلها و نظرات الصدمة تعلو مُحياهم بهذا الخبر المُفاجأ كيف لتلك السيدة القوية أن تكون إحدى ضحايا هذا الوباء.

لا أعلم ما هو الوصف المناسب لنا و لتلك الحالة اللتي نعيشُها نحنُ المكلوميِن بٌفقدِ الأحِبة خِلال الأزمة و لكن أستطيع أن أَجزم بأننا لم نبكي كثيراً و لكننا بكينا طويلاً

و كُلما يتكرر ذلك الموقف أتذكر رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستنغمانيعندما تحدثت عن خالد الرسام ذلك الشاب المُذهل الوطني عندما فقدَ إحدى يديه في الثورة الفرنسيّةِ الجزائرية ، في البدء لم يسأل أحد خالد عن سبب تِلك الإعاقة فالكُل مُتعايش على الفقد بعد ثورة أخذت مليون شهيد و خلفت الكثير من المُصابين و الجرحى ، لكن بعد مضى الشهور و السِنين أصبح الناسُ يتساءلون عن تلك الإصابة ، و كيف فقدت يدك يا خالد ؟

و أصبح تاريخ هذه الثورة مطبوعاً على جسده و لا يستطيع أن يتحرر منه و لا مكان للهرب من هذا الجسد و هذا المُجتمع و كُل تلك الأسئلة.

 هل هذا هو نصيبه في الدُنيا و قدرُه اللذي أنقذهُ من الموت و لكن طبع على جسده جميع تساؤلات البشر و أصبح للجسد ذاكرة تُعرض على الملاء ؟

أتذكر عندما رأيتُ أُمي قبل أن تذهب للمستشفى كانت في أشد حالات الإعياء ناظرتُها من بعيد ولم أقترب منها منعاً للعدوى و كُلي يقين بأن أُمي القوية الصحيحة ستتماثل للشِفاءِ قريباً وكُل هذا سيتحول لِذكرى مُزعجة ، لو علِمتُ بأن تلك آخر مرة أرى أُمي واعية لحضنتُها و لم أُفارقها حتى و لو كان الوباء طلقاتُ رصاصٍ موجه إلينا ، لن أختار الموت لأفديها وهي مُقارنة الاستحقاق و لكني سأتلقى تلك الرصاصات معها لِنموت سوياً.

لعل خالد و أمثالِهِ يمشون بأطرافِهم المبتورة و أنظارُ البشر و تساؤلات الناس تُلاحِقهُم إلى أن يرحلون عن الدُنيا و تساؤلات البشر عن أُمي ستُلاحِقني فترة و لو امتدت سنوات سوف تنتهى ولكن طريقة رحِيلها ستبقى كرِصاصة في صدري لن يشعُر به أحدٌ غيري و لكنها دوماً ستؤلُمني و تُرافقني كقلبٍ مبتور مثيلة يد خالد ولو اختلفت المُسبِبِات و الرؤى.

أصبحتُ لا أشتاقُ لأُمي بل أشتاقُ لتلك السيدة الغريبة العجيبة السخيفة القوية الجريئة الخجولة أتذكر كُلما رأتني مُتعكرة المزاج يتعكر مزاجُها أضعافي و تُخفي ذلك عني و تفعل المُستحيل لكي تفُك أزمتي و لكنها تُحاول أن تُخفف عني بِمُزحاتِها الكثيرة و تهمِسُ لي ” ضايق خلقك عطيهلخوج الأصغر منج و ديري باللج مره واحد طلع من هدوموا معرفش يرجع تاني ” غريب كيف لهذه الإنسانة الوقورة أن تتواضع مع الجميع و تمتلك ما نُطلق عليه ” ليفل السخافة اللي أحبه ” و كيف لها أن تكون بهذه القوة و الجُراءة اللتي أكسبها عداوة الكثيرين ، و أتذكر عندما كانت ترى خدم بعض الجِيران يُنظفون السيارات صباحاً في أبرد أيام السنة كانت تتصل بأرباب البيوت تُعِيبُ عليهم هذا الفعل و الكثير من هذه المواقف لاحصر لها ولا عد ، عندما تجلس معها لا يُمكنك أن لا تضحك و أن لا تأنس بمُجالستها وتظُن بأن هذه السيدة ما مسها أي من خُطوب و كُروب الدنيا كأنها ملكة هذا الزمان و لكن أُمي كالكثير من البشر عانت كثيراً  و قد فقدت طفلين من أبنائها و أم لشخصين من ذوي الاحتياجاتالخاصة ولو جلست معها لرئيت حُبها للحياة و قُدرتها على خلق الأُنس و حُبها للحفلات و النُزهات و مواكبة كُل ما هو جديد في هذا العالم و حُبها لمُشاركة الآخرين و مواهبها الكثيرة ستظُن أن هذه السيدة مُتواضعة دينياً و لن تُخمن أبداً بأنها تُقيم كُل الليل صلاة و كُل نهارها صيام و تختم القرآن كُل بِضعةِ أيام و على استعداد أن تُضحى بما لديها للآخرين و بأنها فعلياً قديسة.

كُنتُ أنا و أخوتي دوماً نقتاضُ من الوقت و المجهود و كِمية الحُب اللتي تُغدقها أُمي على من تعرف قريب أم بعيد و تلك القُدرة الملائكية على المُسامحة و قضِ الطرف عن كُل نقص و حُسن معشرها مع الآخرين ، و تمنينا بأن تكون أُمي دوماً لنا نحنُ عائلتها فقط.

وتحت ظِل التباعُد الاجتماعي كان عزائُها و حُزنها لأُسرتها فقط وهو شيءٌ لم نقتاضُ منه فالأغلبية لا تستحق أن تذرف على أُمي دمعة أو تتصنع حُزن ، وكما تقول الملكة أليزابيث الحُزن هو ما ندفعهُ ثمناً للحُب

و للمفارقة سعدنا بذلك و كان عزاءاً حقيقياً لأنهُ كان لنا فحسب.

وكُلما أتذكرُ أُمي أتذكرُ أبي ذلك الرجلُ العظيم اللذي تحمل المسؤوليةمن صِغرِه ، أبي اللذي لم تتوالي عليه المراحل العُمرية عاش من طُفولته شاب و توفي شاب.

. أبي ذلك الرجُل اللذي أحب الحياة و أحب الأولاد و البنات و يطيرُ فرحاً بالأحفاد

أبي اللذي قاعر الكثير من المرض و التعب في أخر عقدٍ من حياته بداية في الفشل الكلوي و نهاية في أورام الجهاز الهضمي كان إنساناً مثالياً حتى في مرضِه ، كُنا نجلِسُ معهُ لا نشعُرُ بمَرضِه فروحُ الشبابَ و عُنفوانه لم تُفارق أبي ذلك الرجلُ السبعيني العظيم ، لم أكُن أعي فعلياً مُعاناة أبي مع المرض إلا في آخرِ أيامِهِ عندما توقف عن الكلام فجأة و ضاق صدري عندما تغير أبي لأول مرة في حياته قبل رحيلِه بأيام للتو أدركت كم كُنتُ ساذجة مع أبي و أُعاملُه تلك المُعاملة الغير استثنائيةاللتي أستحقها في مرضه

كيف كُنتُ شديدة التذمُر من مشاكلي السطحية أمام أبي كيف هان على نفسي أن أكون تلك الفتاة الأنانية و أنا أعلم برقة قلب أبي وكيف كانت تنهمِر دُموعُهُ عندما يرى أقل شكوى من أبنائه و أحفاده ،  للتو أدركت بأنني كُنتُ الفتاة السخيفة.

أبي أحب الحياة بكُل قساوتها و لم تتضاءل مع السنوات اللهفة لهذه الحياة ، أبي اللذي عاش كُل حياتهُ مُمتناً سعيداً لِكُلِ ما منحهُ الله أصبحتُ أعرف لما يرى الجميع أبي في رؤياهُم و أحلامهم شابا في الثلاثينات من عُمره لأنهُ العُمر اللذي عاش به طول حياته. 

كُنتُ دوماً أتطرف في نظرتي للعُمر ، كُلما رأيتُ شيخاً كبيراً ظننتُ أنهُ قد عاش كافي الأمد ، و رأى الكثير في هذه الحياة ، و سَمِعَ الكثير من الحكايات والقصص ، و عاش الكثير من المُغامرات و بأنهُ قد أكتفى و بأنهُ يتقبل فكرة الرحيل عن هذه الحياة.

أتذكرُ أُمي و أبي قد بلغوا السبعين و لم أستشعر ذلك العُمرَ أبداً ،أحسستُ بهم دوماً في ريعان الشباب و كُلما عاشوا أكثر ازدادت لهفتهُم للحياة و كُلما كثُر الأحفاد زانت دُنياهم و ما أغلى من الابن إلا أبن الابن، لو كان العُمر يُهدى لأهديتُ أُمي و أبي من سنيني لأني رأيتُ كيف تُصنع ملذات الحياة و إن في السبعينيات للتو قد تنفسوا الصُعداء ، وللتو قد عاشوا الحياة اللتي تمنوها من قبل ، و للتو هدأت و زانت لهُم الدُنيا.

أعلم بأن الكثير يستهجنون حنقي و غضبي و حُزني و سيقولون هذه أفضل أقدارُ الدُنيا الآباءُ يكبُرُون ليرحلون و الأبناء يُشيعون الآباء و ليس العكس و للشيخوخة آخر مراحل العُمر زمنٌ ينقضى.

لكن صدقني لو أمد الله لك لشتقت للحياة كُلما ازداد بياضُ شعرك ، ولزداد الحنينُ للدُنيا كُلما ازدادت تجاعيدُ جسدك و سوف تصَدِمُك تعابيرو ألقاب الشيخوخة اللتي تُطلق عليك مثل ” أشلون شايبكم و لا أشلونعجوزكم ” و سوف تُردد في داخلك خِفَيةً عن الناس من أنتَ لِتُطلق تلك الألقاب ، و من أنتَ لتحكُم بمن اكتفى ، و من أنتَ لتُقرر من يشيبُ و يعجُز ، من أنتَ لتُصنف ملذات الحياة و مراحلها.

و بالفعل من أنا أيضاً لأحكُم على مُغامرات الزمن لأكتُب عنها اليوم و كأني أنا العليمُ به ، و بالمُقابل من أنتَ لِتُثير حِيرتي و لِتسألُني عن وجهة نظري و تُجبرنِي بأن تكون صحيحة و نهائية عن الزمن و الجمال و النُبوغ و الحياة و الممات و كُلِ تلك الأمور العجيبة.

من نحنُ لنتساءل و نتجادل عن أجمل ما في الحياة ، و عن أجمل مُغامرة، و عن أجمل رحلة.

 هل نحن المُخلدين اللذين نستطيع أن نتجادل الآن و أن نحكُم على أحداثِ الزمن أن نوقف عقارِبُه و كُل تحركات البشر و جميع نواياهُم لكي نتحاكم و نُقرر بذلك الشأن ؟

 من المُمكِن أن يُخلد الله سُبحانهُ و تعالى بشر إلى آخِر الدهر فيصِلون إلى نتيجة و تصنِيف مُحدد ، لكن كيف تُصنف تلك الحياة الأُخرى اللتي سنُبعث فيها من جديد الأبدية هل سيكون لها تصانِيف مُحددة.

سمِعِتُ ذات مرة بأن أجمل قصة هي اللتي لن تسمعُها أبداً ، و أجمل مُغامرة هي اللتي لن تخُوضها أبداً ، و أجمل جلسة هي اللتي لن تجلس فيها أبدا.

ما معنى النعيم إذا لم يتجدد كُل يوم شُخوصٌ جديدة تُذهلُك و أحداثٌ جديدة تُبهرُك في كُل حين .

هُناك تتبعثر التصنيفات و تضمحل التفضيلات في ذلك العالم الجديد كُلياً اللذي سنُبعثُ فيه من جديد و لن تسأم أو تمل فيه لحظة ، و لعل الأمر حقيقةً في هذه الحياة شبيه بالمثل الصيني أن العِبرة ليست بالوجهة و ليست بالرِحلة بل العِبرة بالرِفقة لأن ليست هناك وجهه ثابتة و الرحلة لن تنتهي ستظلُ مُتجددة و لكن العبرة بمن أحببنا أن نُرافق إلى الأبد.

كان دوماً يستوقفني كُل ما هو جديد و غريب في عالم الأزياء و أتذكر ممثلات الزمن القديم الأنيقات ، و كُل ما أقرأ قصة أو قصيدة جميلة من كاتب حديث أتذكر أباطرة الأدب القُدماء ، و أرى كُل شيءٍ يمضي و حتى الأعلم و الأفضل اليوم غداً لا يعلم و لا وجود له ، حتى الرسول صلى الله عليه و سلم بجلالةِ قَدرِه و مكانتِه العظيمة لم يعلم عدد الرُسل ولا جميع القصص كما قال اللهُ سُبحانهُ و تعالى (ورُسُلاً قَد قَصَصناهُمعليك من قَبلُ و رُسُلاً لم نقصُصهُم عليك).

لكُل الجمال اللذي رأيناه في الدنيا  وظننا بأنهُ الغاية من حياتنا و تفلت من بين أيدينا مع كُل محاولات التشبُث اللتي أرهقتنا و كان يجب أن نقول لها بوقتٍ أبكر ” وداعاً “. هل الأسهل أن أتجهز لذلك الوداع أم أترُكهُللقدر.

و أتذكر في يوم من الأيام مررتُ بالسوق أمام متجر للورود و رأيتُ وردة عظيمة من خلف الزُجاج

سُحرتُ به و بجمالِها و حجمِها و لونها ، ذلك اللون الوردي الغامِق الغريب المُتفرد البعيد عن براءة درجات الأبيض و شراسة درجات الأحمر و عدد بتلاتها الكثيرة ، و تستغرب كيف لتلك الساق النحيلة أن تحمِل كُل تِلك البتلات الكبيرة الثقيلة نظراً لما تحملهُ من طراوة و إذا بي أشتريها منفردةمُنذُ خُروجي من المتجر كُلُ الأنظار توجهت لها وإذا به تتفتح و تكبُر على مدار أكثر من يوم ، الكُل إنهال عليها بالمديح و لمساتِ الإعجاب و الاستغراب إلا أنا ضاق صدري و ازداد ترقُبي كأني أعُدُ اللحظات لأقول وداعاً.

 حنقتُ على عُبوسِ نفسي و تشاؤم عقلي كيف لي بأن أترقب زوال الجمال كيف لي ترقُبُ الذبول و حُصول العجز هل هي العقلانية و نظرة حقيقة على هذا الوجود.

 لماذا أصبح يعتريني دوماً سوء الظن و تشاؤم من المستقبل و هذا الوجود الزائل؟

 لماذا أصبحتُ لا أستمتع باللحظة السعيدة و النظرة الجميلة؟ 

و للأسف أصبحتُ أُشغُل نفسي دوماً بتعقيدات الزوال اللتي تحرِمني من الاستمتاع باللحظة.

أين نفسي من لَعِبِ الطُفولة عِندما نرى زهرة جمِيلة نقطُفها و نلعب بهلثواني إلى أن تتقطع و تُداس تحت أقدامِنا و نذهب بعدها لتناول الأطعمة و مُشاهدة الأفلام و لا نُلقى بالاً لهذا الجمال اللذي أندثر.

لماذا ألم بي هذا الحُزن الإستباقي كما يقولون فأعجز و أغضب قبل و بعد فوات الأوان و بِكُل حين.

لماذا أصبح الكثيرين يخافون من اللحظة السعيدة لأنها ستنقضي و لسوء الحظ اللحظات السعِيدة تنقضي سريعاً.

 ما بعد تلك الأُمسية الجميلة إلا أن يُخيم الظلام ، و ما بعد تلك الرفقة الجميلة إلا الافتراق.

لماذا أصبحنا نخاف من الأشياء الجميلة و الشخوص الاستثنائية و وضع كُل عظيم في المكان اللذي يستحِقُه؟

هل هو الفقد اللذي لامسنا على حِين غِرة مراتٍ عديدة فحفر في قُلوبِنا و عُقولِنا هذه الهواجس من المُستقبل ، هل هي ذكرياتنا الجميلة اللتي تراكمت مُنذُ الطفولة و كُلما ازدادت أزداد الحنين و الحسرة؟ 

آية ٣٢ عاماً أمي ٧٠ عاماً.

من الأجدر بالحُزن أكثر ، من يُعذر على الدمعات و الملامات أكثر؟ 

لا أُريد أن أقِف بمُقارنة معك لأنني لا أُريد و لا أملُك المقدرة أن أقف بمُقارنة مع أي شيء.

كُلما أتذكرُ أيتام العالم ، شخصٌ لم يرى أماً ولا أباً أُقابلهُم وجهاً لوجه لنتصافى على غضبِنا لعلهُ كان غضبي أنا فحسب ، لعل ما أغضبُ عليه هو ما أتساوى بهِ معهُم من نِعمه حصلتُ عليها من غير وجه حق ، لعل نِقمتي هو حُصولي هو فوزي و نِعمتي لعل الحرمان كان طوق نجاتي ولم أُدرك و لا أُريد أن أُدرك إلى الآن ، لعل للحرمان لِذة تُعادل أو تفوقُ لِذة النعمة ، لعل الله سُبحانُه و تعالى بِعدلِه و جبروتهِ و حِكمتِه اللتي فاقت كُل توقُع و إدراك قد أراد للمحروم و للمُستغنِ أن يتساون بالنهاية في الدُنيا قبل الآخرة ، اللهُ يأخُذُ منا ما يُعطينا فنتحسر فنتمنى أننا لم نُعطى.

لعل اليتيم يضحك من كلامي و يستهجن حسراتي و اشتياقي ، لعلِي أُحدثُه عن أشيائنا الصغيرة و الكبيرة ما أحببت و ما كرهت و تلك الرحلة الطويلة من مولِدهم إلى مماتِهم ، فيرمُقني بنظرة استغراب ولا يبالي كلياً.

كيف أشرح للأعمى جمال الكون و تفاصيل ما فآتهُ من جمال لا نفسي تقبل و لا روحي تحتمل هذا الجنون.

و قد أصبحتُ أفهمُ و أُدرك كُلياً لماذا يُحاسِبُنا الله سُبحانهُ وتعالى بلا مُقارنات ، لماذا لا يتقابلُ الأضدادُ أمام اللهُ يوماً مريض بوجه صحيح ، و جميل بوجه دميم ، و غني بوجه فقير لعلها اختلاف النظرة الإنسانية و اللغة الوجودية اللتي جعلت لُغة التفاهُم مُستحيلة ، فعفى اللهُ عن هذا اللقاء المُستحيل القبيح.

لعل ما يُرضينا هنا لا يُشابه ما يُرضينا أمام الله سُبحانهُ و تعالى ، لعل كُل تلك الأفكار اللتي تُراودنا الآن تتحطم أمام ذلك اللقاء العظيم ، هل اختياراتنا اللتي سوف نتحاسب عنها مفصولة عن صِفاتنا الوجودية و نحن أسيادُ الاختيار بالفعل.

هل الزمن اللذي نقضيه في هذه الحياة القصيرة يكفي أن نكون أسياد الاختيار ، هل الزمن يكفيني و يكفيكُم و يكفي من غادر صغيراً أو كبيراً لا أعلم و تظلُ الإجابة مبهمة و نحنُ نتصارعُ معها هل نترك اختياراتنا العظيمة المُتعبه و نركُن للراحة و السكون في عالم مُتصارع سريع يعجز أن يقف لنا قليلاً.

هل سأمضي العشر سنوات المُقبله كما أمضيتُ السابقة هل أستطيع أن أُصحح أخطائي أن أرفع سماعة الهاتف و أُخبر أحبتي كيف أُحبهُم وكم أُحبهُم و إلى أي درجة أنا مُشتاقة للقاءٍ سريع مع بعض السمر.

لو كُنتُ أعلم أن غداً آخر يوم في حياتي كيف سأمضِي سُويعاتِه.

لعلي سأمضي اليوم و ليس غداً ، لعل الله علِم اختياراتي و جنب روحي سوء المنظر و سوء الموقف في الدُنيا

لعل الله لم يُرد أن يزيد عذابات المُرهفين بسوء موقف ولو كانت كلمة جوفاء و لا بألم محسوس ولو كانت شوكة ستطؤها الأقدام ، لعليِ اجتزت اختباروجودي و أنا لا أعلم وقد حان وقتُ الرحيل مُنذُ زمنٍ بعيد حتى ولو كبُرت و عظُمت تجرُبتي الدُنيوية المُتبقِية ، و تُركتُ حقيقةً في هذه الدُنيا لِجلسة خفِيفة و رِفقة سليمة القلب و ذكرى جمِيلة لِبعض البشر. 

لقد رأيتُ الكثير من البشر لا يليقُ بِهم التزاحُم على الدُنيا  ذوقٌ رفيع ، و نفسٌ عفيفة ، و عقلٌ نبيل ، و فكرٌ عظيم ، و حديثٌ شيق و أشفقتُ عليهم من مواجهة رُكام الحياة الدُنيا حيثُ تتمزق كُل تلك المحاسن.

كُلما أتذكرُ أمي وقُوتها و جُرأتها و أتذكر مواقفها الغريبة و جدالنا بشأن تلك الأمور الغريبة و أذكُر عندما رأت صنبور ماء في أحد المنازل و قد أنفجر مِنهُ الماء و إذا بأُمي تلك المرأة الخجولة تقترب منه و يرشُقها الماء بقوة و لكنها عزمت إلا أن تُغلق الصنبور بما تبقى من قِطع أنا أوقن بأن أُمي صارعت كُل مشاعر الخجل و الغرابة مدفوعة بِحفظ النعمة كانت في كُل مرة ترى ماءاً يُهدر تُغلق الصنابير ولو كانت داخل أسوار البيوت كُنتُ دوماً أُعيب عليها هذا التصرف حفظاً لمكانتها و صوناً لصورتها و يُسيئُني أن يُسيء أحدٌ لأُمي و كانت دوماً ترُدُ على تكهُماتي” الله أكبر عليهم مايخافون الله هالماي النظيف أعرف أنهم شارينه بفلوسهُم الله ياخذهُم و ياخذ فلوسهُم ”  كان يُسيءُ لها منظر النعمة المُهدرة لعل أُمي اجتازت مرحلة الاختيار في ذلك الوقت ، لعل جوهر اختياراتنا تنبع من مواقف الرخاء ما نختار عندما لا نحتاج ما نختار عندما لا تكون هناك عواقب ولا ضغوطات ، لعل الاختيارات اللتي تكون تحت الظروف القاهرة اللتي لا ترحم و أمورٌ نُجبر عليها ما هي إلا مُقارنة لا نهائية و لا مثالية لاختياراتنا ، أحدثها ربي لكي نُدرك فحوى التغُيرات اللتي تمُرُ بنا لتكون لِحياتِنا معنى أعمق لنكون قادرين على فك لُغز الوجود في أعمارِنا القصيرة لنُدرك أن هُناك شر في هذه الدُنيا و في نُفوس البشر ما يكفي لتدمير الأرض مراتٍ عديدة وهو شيءٌ غير مفهوم.

 لماذا لا يُريد الجميع أن يحي الآخرين بسلام؟ 

لماذا خلق الله الجنة و النار؟ 

لماذا خُلق الجحيم لبعض البشر ؟ 

لماذا يفرحُ البعض بألم و مُعاناة الآخرين؟ 

لماذا يُحبُ البعض أن يكون سبب في مُعاناة الغير ؟

  هو شيءٌ غريبٌ كريه ، و للأسف هو موجودٌ و يعِيشُ بين البشر ولا يُمكن تفسيرهُ إلا بخوض تجرُبه مريرة في طُرقاته لنفهم ما لا نستطيع أن نُدرك و لنُجرب سوء الرفقة لكي نُقدر حُسن العشرة لنذوق التعب لنحُس بالراحة لنذوق المرض لنحُس بالعافية لنذوق بشاعة بعض البشر لنحُس بجمال أخلاق البعض.

 أم هي على الجانب الآخر الطريقةُ المُثلى لكي نعلم إلى أي مدى من المُمكِن أن تسوء أفعالُ البشر و كم من المُمكن أن ننزلق للحضيض لولا رحمةُ الله فيعفو عنا ونُجازى على عطف الله و حِكمتِه لا على عدلِه و جبروتِه و لا بسبب اختياراتنا الحكيمة لا و قوة البصيرة ، وكما يقولون يدعي المرء ما يدعي إلا أن يُختبر.

لا أعلم و كلمة لعل وعسى دوماً ما تقود تساؤلات بني البشر وهي مانستعيضُ به عن كلمة يا ليت و لو اللتان تُمزقان الروح و تُدميان القلب و تمُرُ أيامٌ عديدة بين كتاباتي و كُلما أقرئها مرةً أُخرى تُراودني أفكار و تساؤلاتٍ أكبر أعجزُ عن كتابتِها و أعجزُ عن صِياغتها و دوماً ما تخونني ذاكرتي في أن أذكُرها من الأساس.

إلى الآن أملُك الفُرصة أن أُغير طريقة تفكيري أن أكون إنسانه مُختلفة كُلياً ، و أن أزداد يقيناً بأنني محظوظة و إنني أكبُر كُل يوم حتى ولو كُنتُ في طريقي للهِرم و تكبُر معها أفكاري و لو كانت تزدادُ قتامةً مع كُل تجرُبة سيئة و لكن إلى الآن أنا أملُك اللحظة و خوفي من أن أفقدها و أُسيء استخدامها يكبُر على الضفة الأُخرى.

لحظات وينهار كُل هذا إلى فراغ لا نهاية له و أنظُر للسماء لأبعد نُقطة أستطيع أن أنظُر إليها.

عندما أصبحتُ أرى السماء اطمأن ، عندما أصبحتُ أعلم بعدد الكواكب و المجرات أصبحتُ اطمأن على كُل شيء نفسي و أحِبتِي و جميع أشيائي الجميلة لعلهُم في أحد تلك الأماكن البعيدة ينظرون إلينا بخوفو سُخرية و يستعيذون من هذه الأرض وما عليها و يخافون من الرجوع إليها ولو ثواني ، يخافون من هذا الضيق و هذا التزاحُم و كُل متاعب الحياة و شقاءُ الدنيا و خرِيفُها الدائم.

لعلي إذا صرختُ بأقصى قوة للسماء أظُنُ بأن أهل السماء و من سبقنا إليها سيسمعون صوتي و لكن سيضحكون بسُخرية من أهل الأرض و بالتحدِيد ذلك السخِيف اللذي يُناديهم  بالأسفل و كُل ذلك المكان الغريب القبيح المُتدني و يؤثرون السلامة بالصمت.

 فجأة تتناثر كُل أفكاري العظيمة و مشاريعي و طُموحاتي الغريبة عندما أنظُر للسماء و أبتعد عن هذا الواقع ففي السماء ما يُكفيني ولكن للوقت أن ينجلي و ينتهي كما ينجلي و ينتهي كُل شيء و أرجع لهذا الواقع بقوة و أتعثر و أقتاض من ما ليس لي و أشتاقُ لهذا الرُكام فأعمل و أُفكر  إلى أن تتعبُ نفسي و تستوقفني السماءُ مرةً أُخرى بنُجومها و أقمارِها و غُيومِها فأنسى أمر الدُنيا لفترة و ترتقى نفسي عن كُل تلك التوافه الدُنيوية وما ألبُث إلا أن أرجع بعدها الى سابق عهدي و دوماً ما أتذكر مقولة الفلكي و الإنسان العظيم صالح العجيري رحمةُ اللهُ عليه ” إن أكثر مشاكل الدنيا حصلت لأن الناس بطلت تُشوف فوق ” ، و لكن لن أُسيء الظن ببني البشر لعلهُم يشتاقون لكُل ما ذهب و مضى أكثر مني و تُتعبُهُم الدُنيا فعلياً لدرجة الزُهد و الاعتكاف عن كُل ما فيها ، لعلهُم يعكِفون على كسبِ المال فقط لكي لا يكسِرهُم شيءٌ حقيرٌ مثلُه يوماً ما.

و لسُخرية القدر في الأغلب يقف المُتأمل في السماء آخِرَ كُلِ شهر عِند العاملين في الأرض طلباً للعون لتسدِيد فواتيرهُم و مُستحقاتِهم الدُنيوية و لفك مشاكلهُم المادية و لا عزاء لمُتأملين السماء في الأرض.

أتذكرُ أُختي عندما أجرت عملية جراحية تُعتبر من عمليات اليوم الواحد البسيطة و للأسف كانت مملوءة بالأخطاء الطبية و الإهمال و الرعونة المهنية و تُعتبر نجاتها أُعجوبة طِبية ، أتذكر تلك الأوقاتِ العصيبة بعد العملية بساعات عندما بدأت أُختي بالتدهور سريعاً لم أكُن أعلم ما يجب أن أفعل ، تمزقت نفسي عندما رأيتُها تُصارع لتأخُذ أنفاسها فقط.

 كيف لِتلك اللحظات القبيحة أن تُنسِيك دهراً من اللحظات الجميلة.

بعد ذلك كُنتُ أرها من خلف زُجاج العناية المُركزة صامتة و أتذكر ضَحِكاتنا الطويلة و تلك المُزحات الكثيرة اللتي كانت تلفِتُ أنظار الجميع و يستعجبون لحجم ذلك الأُنس هل حان الوقت لكي ندفع الثمن الآن و نصمُت

كُنتُ أقف عند ذلك الحاجز الزُجاجي الشفاف كما وقفت عند أُمي قبل سنة و كما وقفتُ عند أبي قبل سنتين و أُفكر هل هي ضريبة السعادة يجب أن تُدفع الآن.

كُنتُ أُناظر يميناً و يساراً على طول ذلك الممر الطويل لتلك الجُموع الباكية على أحِبتهُم في العناية المُركزة و ألسِنتهُم تلهجُ بالدُعاء و عُيونهم قد أمتلئت دموعاً و وجوههم اللتي أمتلئت حسرة و ترقُب.

وتأخُذني الأفكارُ و سوء الظن بالله و يسئُ خِطابي و أتسائل هل سوف يستجِيبُ الله لنا اليوم ، هل يقول كُن فيكون الآن لتنصلح كُل تلك الأمور ،لا أُريد أن أكون قانطة اليوم و أنا في أمس الحاجة للإيمان و الثِقة بالله و لكن اليأس و انعدام الأمل اللذي خلفتهُ التجارُب القديمة يُصبُ فوقي صباً.

ربي و في أكثر لحظات حياتي قتامة ، أنا أعلم أن هُناك من يُعاني أضعافي ولكن عينُ الرضى كليله من أنا لأصمُد اليوم أمام هاذ الاختبارالجديد اللذي أُجبرت على خوضِ غِماره ، كيف لي أن أصبِر على ما لم أُحط به علماً.

عندما تمشي في أروقة العناية المُركزة و تخرُج من ذلك المكان تستغرب أن في الدُنيا من يبتسم و يضحك و تنظُر على الوجهه الأُخرى إنك كنُتَ أيضاً تبتسم و تضحك قبل هذا الحين و لم تستشعر أن في الحياة هذا الكم من الحُزن و الضيق و إلى أي مدى يُمكن أن تكبُر و تتعقد أُمور الحياة.

و تسوء حالة أُختي الصحية أكثر فأكثر على مدى شهر وهي غائبة عن الوعي و أقف عن الدُعاء كُلياً و أستسلم و أجلس مُنتظرة فقط حيثُ تمضي الدقائق ببطء كأنها أيام ، و فجأة تنجو أُختي بطريقة أكبر من المُعجزة.

في تلك اللحظة تراقص قلبي فرحاً و ذهبت كُل أحزاني أدراج الرياح و أصبحتُ كطفلة لا تهتم بأي أمر من أمور الدُنيا.

وتبدأ أُختي مسيرة التعافي من جديد على مدى سِتةِ أشهُر قضيناها في المُستشفى.

 عندما كُنتُ أراها و تُبادلني الحديث كان يطيرُ قلبي فرحاً وكانت من أجمل لحظات القدر و لا أُصدق بأن الله كتب لنا اللقاء من جديد.

 ثواني و تشتعل نفسي غضباً و حسرة لكي أنتقم من أطبائها  قانونياً و بكُل الطُرق و من غير تحفُظ وما صنعوه من كارثة ، وما ألبُث إلا دقائق و أرجع إلى أقصى درجات الفرح  بهذه النجاة العظيمة و تارةً أُخرى تتوحشُ نفسي و تارةً أُخرى أنسى كُل تلك الوحشة و أصل لأعلى درجات السعادة عندما ألمحُ أُختي و بعدها بثواني أستذكِر و تتقلب ذكريات هذه المرحلة و أغضب ثم أفرح و هلُم جرا و كما يقولون “تذهبُ السَكرة و تبقى الحسرة ” ، لقد سَمعِت تلك المقولة كثيراً ولم أفهمها ولكن للأسف عِشتُ معها ليس يومياً بل لحظياً خلال مُرافقة أُختي ستة أشهُر في المُستشفى حيثُ لاقت أشد التعب.

 

كان الأطباء يُحدثونني بسطحية عن الأخطاء الطبية و يتغافلون عن ما ينتج عنها من مآسي و خلفهُم غُرف مملوءة بمرضى يُعانون أشد المُعاناة لأمراض أنزلها اللهُ عليهم و لا سقف لتلك المُعاناة كُنتُ أشعر بأنهم كانوايتدارون بمُعاناة الغُرف اللتي خلفهُم و إننا ما صنعناه من سوء يضاهي ما صنعهُ الله بعباده و لقد ازداد المرضى رقم آخر فحسب.

كانت نفسي ترى البشاعة في جميع تلك الأفعال كانت نفسي تلوم الأطباء و تلومُ الله على تلك المُعاناة 

أصبحتُ أتسائل عن أحداث الدُنيا و تخرُصات الحياة و كُل تؤيلاتالبشر ، و كيف تتشابك الأُمور و تضيعُ الحدود الأساسية بين أقدار الله و اختيارات البشر كيف تُفرق الأفعال البشرية عن قدرية الله في الكون حيث تكون جميع الأحداث الكونِية على ضِفتين و الحدُ الفاصل بينهُم أضعف من الشعره و أحدُ من نصلِ السيف ، و الويلُ حقاً لمن يعبث و يتراقص عند هذا الحد ليخدع الآخرين و يتدراى بشرور الدنيا كيف لي و للبشر أن نُرجع و نؤل الحالة السيئة أو  الحالة الجيدة التي نمُر به على الله أو ذواتنا البشرية .

وأتذكر السجال بين طائفة القدرية و الجبرية ، القدرية يؤمنون بأن الإنسان يصنع كُل مُستقبله و هو سيد اختياره و طائفة الجبرية تنفي صله البشر بأقدارهم و أن المُستقبل بيد الله فقط.

هناك الكثير من البشر يُلقون اللوم على الله جل جلالهُ و يقولون على كُل رِعونة أو سوء يقترِفونهُ هذا أمرُ الله ، ولو كُنا نعلم بعدد وكم  الأفعال البشرية في الدُنيا اللتي تقولت على الله بأن هذا أمرُه و تقديرُه في الدُنيا لشابت رؤسنا و صُعقنا بأن أغلب تِلك الأقدار الصعبة من ذواتِ البشر و أن الله بريءٌ منها.

غريب كيف يتهاون هذا البشرِي السخِيف الجبان بكلمة ” هذا أمرُ الله “و يُحولها من رحمة و طمأنينة إلى لعنة و غضب ، كيف للبشري أن يضع كينونتهُ البشرِية الضعيفة في مواجهة مع الله جل جلالهُ تدليساً و جهلاً بهذا الشيء العظيم ، كان الفريق الطبي يقول “هذا أمر الله و احمدواالله أنها نجت من كل اللي صار ” ، كانوا كُلما يقولون تلك العبارة كأني أرى اللعنات من الله تتساقط عليهُم ، و ما كان في الدُنيا عقاباً أكثر ضراوة و شراسة من ذلك العقاب أن تتقول على الله سُبحانهُ و تعالى و أن تُشارك رب العرش في تصريفِ أُموره ، و الوضع ببساطة و على صفة التقريب لا التشبيه و لله المثل الأعلى أكثر شراسة و قتامة و خُنقة كأن أمامك كُل جراحين و عُلماء الأرض و كُل كاميرات الأرض تُصوب إليك و كُل محاكِم الدُنيا قد رفعت الجلسة و بدأت التقاضي فاللهُ الخبير وهو الذي أحاط عِلمَهُ بالظواهر والبواطن ، والإسرار والإعلان ، وبالواجبات والمُستحيلات والمُمكنات ، وبالماضي والحاضر والمُستقبل ، فلا يُخفى عليه شيءٌ من الأشياء.

وهو البصير الذي أحاط بصره بجميع المُبصرات في أقطار الأرض والسموات ، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظُلماء و السميع هو الذي يسمعُ السِر والنجوى ، سواءٌ عِندهُ النُطق والسُكوت ، وهو العليم فوق الكُل وهو من يُعطى من يشاء من عِلمِهِ من عُلماء الدُنيا بكافة مجالاتِهِم على مدى الدهر ويُقلب عِلمُه كيف يشاء بين البشر ويُقسِمُه على من يشاء وقت ما يشاء وهو الذي أحاط بالعِلمِ كاملاً ،و هو الحقُ القوي المتين لا أتخيل وقوفكُم أمامهُ لكي تقوموا بإقناعه جل في عُلاه بأن الأمر مردوداً لك و ليس لنا من الأمر من شيء وهذا ينطبق على كل مهام الدنيا أن أديت عملا يجب أن تتأكد بأنك تسلك أحدى الضفتين و لا تتدارى بسوء الدهر و بجهل المتلقي لتتلاعب بنظرته للقدرفيعريك الله في الدنيا و الآخرة


كان هُناك لافتة يُكتب عليها رؤوس أقلام عن تشخيص الحالة المرضية في كُل غُرفة في جناح المُستشفى ، وكان فُضولي البشري يدفعُنِي لاختلاسالنظر إليها و أقرئها شِبه يومياً كانت مكتوبة بِلُغة إنجليزية علمية بحته ، و كان هُناك شتى  الأمراض و كُنتُ أتعاطف مع جيراننا اللذي جمعنا اللهُ بهم في هذا المكان و أدعي ربي أن يُشافينا جميعاً وهو على ذلك لقادر ،و كانت القائمة طويلة تحوي شتى الأمراض البسيطة و المُتوسِطة و المُستعَصِية و كُنتُ أُصادف مرضى التهاب الزائدة الدودية فأتجاهل هذه المُعاناة اللتي لا تُذكر في تلك القائمة فضحِكت و سخرت في نفسي من ذلك القسم الصغير في نهاية الأمعاء حيث لا يستفادُ منه شيء و مع ذلك يكون مصدر للإزعاج و التوعُك الصحي أيضاً.

و إذا بي أستعدُ للنوم و يُداهِمني ألم رهيب و حُرقة على طول الجانب الأيمن فتفزعُ روحي لهذا الألم المُباغت و أُختي تسألُني عن عجزي عن النوم و تقلُبي و أُخبرها بأني أُعاني من مغص خفيف ولكن ثواني يستفحل الألم و تنقبض روحي و أُريد أن أجهش في نوبةِ بُكاء و أُمسك أعصابي لكي لا أنهار من شِدةِ الألم و حسب قراءاتي المُتواصلة في المُستشفى عن الأمراض كانت الأعراض كالزائدة الدودية ، و أصبح كُل خوفي أن تكون الزائدة الدودية تُنازعني و تُثبت لي بأنها أحد الشخوص الأساسية و تُحذرني من هذا التجاهُل.

كان الوضع كدُخول قاعة مملوءة بالسيدات الوقورات و الشابات اليافعات و تبتسِم بوقار و تُسلِم باحترام على الجميع و تتجاهل طفل في الزاوية ،و لكن ذلك الطفل لا يُعجِبُه ذلك الموقف و ينظُر إليك بنظرة حقد و يُباغتُك بضربة حصى قوية من ” نبّاطة ” على وجهِك المثالي الهادئ كان ذلك الطفل المُقيت هو بالتحديد تلك الزائدة الدودية المقيتة اللتي تجاهلتها كثيراً.

تعوذتُ الله من شرِ نفسي و هذه الروح العدائية و قُدرتي على الاستعلاء و أصبحتُ كُلما أقرأ تلك اللوحة أتوقف عند مرضى التهاب الزائدة الدوديةبالتحديد و أخُصهم بالدُعاء فلا أعرف أين تكون نفسي غداً.

خلال هذه الأشهُر الست كان الجميعُ يستغرب قُدرتنا على التأقلُم مع هذا الروتين في غُرفة واحدة ولكن لم أستشعر تلك الفترة الطويلة أبداً.

أتذكر في مُنتصف تلك الفترة استطاعت أُختي أن تسترد قُدرتها على المشي فخرجنا معاً في الممر الأمامي ، و إذا بطفلة صغيرة من المرضى تسقُط أمام ناظرينا وكانت في أشد حالات الإعياء ثواني و تُفارق الحياة بطريقة صعبة و مؤلمة يصعُبُ وصفها وسط صرخات الجميع و انقلبت الدُنيا رأساً على عقب.

 كانت لحظاتُ هولٍ و صدمة بحجم السماء ، فررنا أنا و أُختي إلى غُرفتنا الصغيرة هرباً من هذا الموقف اللذي زُججنا به على حِين غِرة و جلسنا دقائق لا نتكلم من هول الصدمة و عقلي يعصِف بالأسئلة و الدُموع تنهمر على تِلك الطفلة البريئة ، تُرى لماذا كانت الصُدفة أن نلتقى تلك الإنسانة ؟ 

لماذا كتب اللهُ لنا أن نخرُج في تلك اللحظة لِنلتقي بتلك الطفلة في آخر لحظة في حياتها ما المغزى و ما الحكمة؟

كان الناسُ يستغربون مكوثنا في هذه الغُرفة شهوراً لا يعلمون لو كُنتُ أستطيعُ أن أبني سوراً بلا باب لبنيتهُ خوفاً من كُل تلك الابتلاءات اللتي تُحيطُ بنا و أصبحت الدُنيا كُلها حلقه غضب ضيقة ولا وجود للسماء.

   حاولتُ أنا و أُختي أن نتناسى هذا الموقف ، لكن روحى ولن أُبالغ قد انشطرت نصفين و لم أستطيع أن أنسى أو حتى أتناسى و كُنتُ أبكي أياماً على طفلة لا أعرفُ حتى اسمها و لم أراها إلا ثواني و أُلقى اللوم على ربي سبحانه و تعالى على ما حل بتلك الطفلة و على ذلك القدر الغريب اللذي وضع لهذه الطفلة مكاناً في ذاكرتي.

و إذا بي أحلُم بتلك الفتاة حُلماً مُفصلاً عن منزلتها العظيمة عند الله و أن كُل ما قاستهُ في الحياة أصبح منسياً الآن ، و بعد ذلك أصبحتُ قادرة على تجاوز تلك المرحلة.

على الصعيد الأخر أصبحتُ أُفكر بالآخرين اللذين مروا بتجارُب أصعب من ذلك و لم يجدوا إجابة شافية و لم يجدوا طريقة للنسيان و المُضي بعيداً عن كُل ذلك و أتسائل عن هذا الماضي العنيد اللذي يأبى أن يُنسى ، أليس من الافضل أن تتلاشى و تنتهي تِلك الذكريات العصيبة حتى ولو  تلاشت معها ذِكرياتنا الجميلة ، أليس من الأفضل أن يُنسى الماضي بِكُل ما فيه من مساوئ و ما رافقهُ من محاسن ، و يبدأُ الجميع من جديد على صفحة بيضاء لم يُكتب عليها شيء ، إذا أراد اللهُ للأشياء أن تمضي بخيرٍ و سعادة.

لكن ما يؤرق فعلياً بأن الماضي سوف يُنبش من جديد لنتحاسب عليه مرة أخيرة.

هل لي أن أولد في النعيم كطفل لا يفقهُ شيءً عن ماضية ليعيش من جديد حياة أبدية في ذلك النعيم الحقيقي اللذي تم استحقاقه بجدارة بعد تجارب مريرة لا يُحب أن يتذكر منها شيءً أبداً؟ 

و لكن كيف لي أن أتذكر ما يُؤنسني وهو نقيضُ ما أتعسني بالدُنيا هل أستطيع أن أنسلخ من مشاعري لأنعم بالنعيم و لكن هل سيكون لذلك النعيمُ معنى.

 كيف لي أن أُحس بأعلى درجات السعادة و الترف إذا لم أُجرب أدنى درجاتِ الحُزن و الشقاء. 

ما هي حقيقة تلك المشاعر الوجودية اللتي نتصارع معها لنبقى في المُنتصف أليس من الصعب أو حتى من المُستحيل مع هذه النفس المُتقلبة أن نقف دوماً في المُنتصف بعيداً عن تلك الحافة الشعورية اللتي ننساقُ إليها في خلواتِنا.

هذا المُنتصف كيف لي أن أقف به طويلاً لعل من الأسهل أن أتطرف يميناً وأكون قِدِيسة مُتسامحة أو أتطرف يساراً و أكون آثمة متشائمة و على الجهة الأُخرى لعل القياسُ يضجُر نفسي البشرية المُتقلبة فتأمُرنينفسي الضعيفة الأمارة بالسوء لأتحرر من كُل شيء لأقف حيثُ ما أُريد لا أكثر.

كيف لي أن أكون دوماً رضياً مرضياً أن لا أجزع اليوم لعل اليومَ هينٌ لينٌ ولكن لليوم نهاية و غداً يومٌ جديد يحملُ الكثير من الأحداث اللتي تتوعدُ بي لكي أُغير وجهتي حتى إذا مر اليوم بسلام لعل نفسِي البشرية المُتقلبة تخونني و تضيقُ بلا سبب لأجد طريقاً لذلك التذمُر و النُفور.

أليس الإيمانُ شيءٌ نسبي يكبُر ليغمُرنا و نبتهج به و نحتفل معهُ بقوة ذواتِنا و جلادة أنفُسنا و قُدرتنا على الصبر ولكنهُ ما يلبُث إلا أن يضمحل ليبقى بارقة منه.

 أليس هاذ التفاوت في الإيمان هو دليل وجوده و قوة الحقيقة. أليس اللهُ سُبحانهُ وتعالى يختبِر البشر في الدُنيا فيبتليهم لكي يعرف حقيقة تِلك النفس البشرية و إلى أي فئة  سوف تنحاز . أنا أومن بأن الابتلاء يكون في أقوى و أشد صِفاتنا كمالاً في الصحة في المال أو حتى في الإيمان ما هي ردة أفعال البشر الحقيقيه عندما يُسحب البِساط من تحت الأقدام.

 أليست القوة كُلها لله يُعطِيها و ينتزِعها من حيثُ يشاء و كما يقولون يدعي المرء ما يدعي إلا أن يُختبر.

 ذلك الرجُل الغني صاحبُ الجاه اللذي تؤرقهُ فكرةُ العوز و الفقر و ذلك العظيم الصحيح اللذي تؤرقهُ فكرةُ المرض و العجز و ذلك المؤمن المُعتد تُؤرقهُ فكرةُ الكُفر و زيغ القلوب و ذلك المُثقف المُتعلم تؤرقهُ فكرةُ الجهل.

أليس الاختبار يكون في أشد الأشياء اللتي نعتزُ و نتفاخرُ به ليُثبت لنا أن القوة كُلها لله و أنك لولا لُطفه و كَرمِه ما كُنت أبداً ذلك المُعتد المُتفاخِر و أن التواضُع مُجملاً و تفصيلاً فِكرة إجبارية لا اختيارية.

كُنتُ دوماً أفكر بتعقيدات النجاة و ذلك القارب اللذي لن يكفي لنا جميعاًو كيف لنا أن نختار المُضي قُدماً أو نتوقف أو نُجبر على التوقف في البدء كُنتُ أتعاطف مع اللذي لا يملُك تذكرة النجاة ذلك الشخص المسكين الأقل حضاً و لكن مع الوقت أصبحتُ أتعاطف أيضاً مع من حصل على فرصة ركوب ذلك القارب و تعرُضه لجميع تساؤلات الاستحقاق و نظرات الآخرين المستفزة و المُساسرة و أفكار ندب الحظ عندما يُرى من الآخرينو الشعور بالذنب لهذه النجاة كُل هذا و أكثر قد تراود اللذين يُكتب لهم النجاة و تولد عُقدة الناجي فتصبح النجاة من الكارثة عبئاً لا هبة.

و أصبحتُ أرى التكبُر و الغرور في الأشخاص اللذين لم يحصُلوا على تلك التذكرة كأنهم يُعايرون الناجيين و يقولونها جهاراً نحنُ اللذين دفعنا الثمن فتُصبح تلك النجاة لعنة و يتمنون أن ترجع عقارب الزمن مرة أُخرى و يتخلون عن تلك الفُرصة و للمرة الثانية للجميع و من غير استثناء التواضع فكرة إجبارية لا اختيارية. 

أتذكرُ في أحد الأيام ألتقيتُ سيدة في قِمة الرُقي و الجمال تبادلنا التحية و إذا به تدخُل بنوبةِ بُكاء عنيفة تفاجأتُ و حاولتُ أن أُخفف عنها بِكُلِ طريقة ، وإذا به تشكي لي وضعها الصِحي و أنها مُصابه بِسرطان البِنكرياس في آخر المراحل و أنها للتو قد رُزقت بِطفلة بعد انتظارعُشرون عام و أن زوجها تركها و سيتزوج سيدة أُخرى بعد أسبوع و أن هُناك الكثيرين من يطلُبون منها الاستغفار و التوبة ظناً بأن ما تتلقاهُ من الدُنيا من سوء قِسمة هو عقابٌ لها. و تُكمل كلامها بعد ذلك بغصة أنها أصبحت تتقبل كُل شيء يأتي بِه القدر و لكن لا تتقبل فكرة أن تترُك أبنتها الرضِيعة ذات الثلاثةِ أشهُر.

تفاجأتُ و صُعقت مما سمِعَتُه و حاولتُ أن أُطيب خاطرها وأصبحتُ أُحدثها عن قِصص نجاة الكثيرين من معارِفي من الأمراض المُستعَصِية و أن الزمن و العلاجات قد تغيرت و أصبح لِكُلِ داءٍ دواء و أن البلاء سُنةُ الله في خلقِة و أن أشد الناس بلاءاً هُمُ الأنبياء ثُم الأمثل و أن تظل مُتفائلة و أن لا تيأس ، توقفت عن البُكاء و رأيتُ في عينيها بريقٌ غريبٌ جميل و ناظرتنيِ بطريقة رائعة زلزلت مشاعري و كياني كأنها رمت علي بهالة بيضاء أنعشت روحي و طارت بي بعيداً عن كُل شيء.

 تلك النظرة الجميلة الغريبة اللتي لا توصف تُشابه نظرة أبي عندما كُنا نُحدثُه عن زراعة الكلى و كيف أصبحت عملية بسيطة والله وربي و أنا البشرية العاجزة وددتُ أن أحمل كُل ألآم تلك السيدة و أدفع الثمن وددتُ لو أستطيع أن أُهدي لها ما في الأرض جميعاً ، و إذا به تُخبرني بأنها تُقيم الليل و تدعي الله طِيلة اليوم أن يُشفِيها و يمُدُ بِعُمرِها لكي تُربي أبنتها الصغيرة.

سأظلُ أتذكر مهما حييت فرحتها و حُسنُ ظنِها و ثِقتها بما أتكلمُ بهجعلتني أشعُر بثواني و بلقاءٍ وحيد بأنني البطل الخارق في هذا الزمن و كيف امتلأت روحي غِيرة و حمِية و شهامة و نخوة ، و تمنيِتُ أن أجلب لها كُل دواء و طبيب في الدُنيا و أُعوض كُل هذا الصبر بِكُل جميل.

تخيلتُ على وجه التقريب لا التشبيه و لله المثلُ الأعلى عندما يُناجي هذا المريض المُتعب المخذول المُتألم الله القوي الغني الرحيم المُعز مراراً و تكراراً كيف يردُ اللهُ سُبحانهُ و تعالى ، سيمضي جرياً مُتلهفاً و لو حسبتُ نفسي غيِورة و رحِيمة خسئتُ ألف مرة فالغِيرة و الرحمة و النخوة كُلها لله وحده ، والله إن ربي لم و لن يتجاهل كُل هذه النداءات و طلباتِ الغوث و لكنهُ لن يجد في هذا الكون أجمع ثمناً و عوضاً حتى ولو وضع الشمس و القمر بين أيدِيهم لن يكفي أن يكون جزاءاً لِكُلِ ذلك الصبر ، ربما كان العوض أجمل من أن تحمِلهُ الأرض فقربهُم اللهُ إليه ليكون العطاء عظيماً و مناسباً لِكُلِ هذا الصبر.

دعوتُ الله كثيراً أن يُشفيها و يُجبِر كسرها العظيم و شغلت تِلك السيدة الجميلة مكاناً في قلبي و عقلي و لا أُريد أن أُكمل قِصتها و ماذا حل بِهبعد ذلك ، و لكن هل يُمكن لكُم أن تُحسنوا الظن بأن النهاية أجمل من أن تُكتب حتى و لو سلكت الأمور أي مُنحنى.

كُنتُ قبل ذلك أستسخف مُعاناةَ الغير و أنظُر بِدونِية لشكوى البعض و أُلقى باللوم عليهم وما هم عليه من ضُعف الحِيلة و قِلة الصبر و لكن بعد تجارُبيِ البسيطة في الحياة أجزمتُ أن الطفل اللذي يبكي على لُعبة كسرها من غير قصد و طفل فقد أبويه ورجلُ فقد بالحياة كُل ماله و رجلُ أصابهُ مرضٌ عُضال و صبي يؤلمه سن من أسنانه و صبي سقط في امتحان و سيدة طلقها زوجها اللذي تُحب و سيدة خسرت جمالها وفتاة سقطت في امتحان و فتاة أُستُهزأ به أمام الغير و أن مُعاناة البشر في العصر الحجري مثل العصور الوسطى مثل الآن و مثل المُستقل جميعُهُم يتساوون بأن الغضب واحد و أن مشاعر الغل و السُخط و الجزع واحدة تأخُذ أوجه مُتباينة تخدعُ الناظر من الخارج و لكنها من الداخل توغر في القلوب بتساوي.

 دوماً جذبتني طبيعة تلك المشاعر الغل و قرينهُ الغضب هذا الشُعور الجهنمي كم هو قبيحٌ و سيء ، فأنا أكادُ أوقن بأنهُ قد بُعث من الجحيم لكي يُعذَب بِهِ بني البشر ، زُرع في نفوسنا يكبُر و يصغُر و لكني أُجزم بأنهُ لن يُفارِقنا أبداً مهما تجلدنا و تقوينا عليه.

ولكن سينزِعهُ الله من صُدورِنا قبل دُخول الجنة بأذن الله و سيغمُرنا ذلك الرضا التام لكي ننعم بالنعِيم على أكملِ وجه ، كُلنا نعلم أن في الجنةِ مراتِب و درجات و لكن لن يغضب و لن يُغل ولن يحسُد فيها أي شخص شخصاً آخر قد سبقَهُم منزِلة و درجة لأن عين الرضا قد اكتملت هبةً من رب العالمين ، و كُل شخصٍ فيها سيشعُر بأنهُ السيد و بأنهُ أفضلُ أهل الجنةَ حالاً و سيكفِيهِ من النعيم ما قُسِم له و لن ينظُر إلى أي شيءٍ يخُصُ غيره ، و أكادُ أُجزم بأن الرضا خُلق بالجنة و بُعث بالأرض ليُريح به قلوب المؤمنين بالدُنيا.

وللأسف و نسألُ الله العافية من سيدخُل النار ستظلُ تلك الخِصلة مزروعة في نفسِه كما حال البشر وهي كما نعلم و العياذُ بالله دركات و لكن لن يقنع أحدٌ فيها أن عذابهُ أخف من غيِرِه و كُل شخصٍ بها سيتملكُه الغضب و سيظلُ يشعُر بأنهُ أسوءَ أهل الجحيم حالاً.

 

لم أكَتُب كُل هذا الكلام لِتضيق صُدُورَكُم ، لم أكَتُب كُل هذا الكلام لأكسب تعاطُفكُم ، لم أكَتُب كُل هذا الكلام لأُحزِنكُم كفاكُم الله شر الحَزن ، لم أكَتُب كُل هذا الكلام لكي تهابون و تخافون الموتَ كأنهُ ذلك الشيءُ القبيح اللذي نتحاشى ذِكرُهُ و نهرُبُ منه ، الموت ليس شيءٌ سيء فالرُسل و الأنبياء و أحسن الخلق قد سبقونا إلية وهي سُنةُ الحياة و مصيرُ كل حي و رحمةً للعالمين.

الموت ليس هو النهاية بل هو نُقطة البداية اللتي تنعدم به كُل النهايات حيثُ تنبعث كُل ذِكرياتنا الجميلة مرة أخيرة لتعيش الى الأبد في ذلك النعيم الموعود.

و لكني مِثلكُم كُلما أقرأ هذه المرثية أُحِسُ بِثُقلٍ على روحي و نفسي و أتسائل عن السبب و هل هو شيءٌ طبيعي و أتذكر بأن عِبأ الحياة و كُل هذه الأُمور اللتي تمُرُ بنا عُرضت على الجبال و السماوات و الأرض و لم يُطِقن حملها فنطقوا رفضًا و أشفقن منها و حملها الإنسان لأنهُ كان ظلوماً جهولاً فقط.

وكُلما كبِرنا و رأينا الدنيا نكتشف تدريجياً ليس بثُقل الحِمل فقط بل كم جهلنا

و لقد أطلتُ عليكم الحديث على مدى أكثر من عشرين صفحة من الجذب و الشد و أنا أُطلق عليها مُسمى المرثية و لكن المشهور عند العرب أن المرثية تُكتب شعراً ولكنني للأسف و أنا أحد أبناء هذا الجيل الواحد و عشِرون قد فقدنا أغلب أدواتنا اللغوية ، و أصبحتُ أغبط العرب القُدماء على تلك القدرة العجيبة على ترجمة تلك الأحاسيس المُتفجرة كبراكين داخل صدورهم بكلماتٍ بسيطة بقافية عظيمة وكيف لأنفُسهُم أن تنعم بالهُدوء و السكينة بعد نظم قصيدة تأخُذ منهُم ساعاتٍ أو أيام ٍمعدودة للأسف فقدنا تِلك القُدرة إلا من منَ اللهُ عليه بقريحة أدبية عظيمة.

لعل القارئ يستغرب من كُل تلك الخواطر اللتي كتبتها ولا يجد لهُ مكان في كُل ذلك إلا لمُشاركة عزاء و تطيِب خاطر ولكن أن كان لي أن أطلُب سأطلُب أن لا تُسيء خطابك مع الله و تُحسن الظن بالله ما استطعت فما خُلقت هذه الدُنيا إلا لإذهالِكُم يا بني البشر بعجائبها ، فهُناك فُقراء عِيلةمُستكبِرون و أغنياء مُتسامِحون مُتواضعون و فُقراء يتصدقون و أغنياء يبخلون و أقوياء يهدمون يُخربون و ضُعفاء يبنون يُعمرون حيثُ لا منطق و ستظلُ مبهوراً بكُل تلك الغرابة طول ما حييت.

و أن تُحسن الظن بالله حتى مع أسوء الأقدار و أبشعها أن تُحسن الظن بالله حتى لو أخبرتُك بأن الله سمح و آذن لكل شر أن يكبُر و يبطُش.

من خلق الطواغيت في البدأ أجنة ضُعفاء ورزقهُم كُل شيء ليكونوا أشداء أقوياء ؟

الله جل جلالهُ. 

من أمد الظالم بالعُمر و الوقت و الصحة و المال ؟ 

الله سبحانه و تعالى.

من خلق تلك الأيادي لتبطِش بالفُقراء و المساكين؟

الله سبحانه و تعالى. 

كُل ذلك و أكثر ما كان أن يكون لولا مشيئةُ الله ولو أراد الله لجعلهم هباءاًمنثوراً لا بشراً سوياً و لكن الله أعطاهم و أعطانا الإرادة الحُرة و حُرية الاختيار و الكثير من الفُرص لتغيير الوجهة في كُل مرة فأُمسكت عليهمو علينا الحُجة الثابتة القوية مراتٍ عديدة.

و دوماً ما فكرت بالضحية و الجلاد و لكن دوماً ما وجدت الجواب كاملاً عندما قال الرسول صلى الله عليه و سلم ( كفى بالموت و اعظاً ) لا الجلاد أستطاع الخلود في الدنيا ولا أستطاع أن يٌخلد الضحية معهُ في الحياةليكيلها العذاب و لكن الموت أستطاع القصاص في الدنيا أحتضن الضحية و أطبق على الجلاد  فقتص من الجميع في البروج المُشيدة و كُل مكان على مدى الدهر من غير تفريق.

و للثابتين في الدُنيا لا تكُن أكثر طمعاً لأن لا هِبه أكبر من أنك تقِف على الجهة المُعاكِسة مما تشمئزُ منه فلا شيء أكثر قيمة من أن تكون على الضِفة الأُخرى ، ولن تكفيك حياتك شُكراً لله بأنهُ وفقك لهذا الاختيارالحكيم.

بعدها أصبحتُ أدعى الله سبحانه و تعالى  أن تتلطف بنا الأقدار و أن لا تحتاج البشرية لذلك المركب نهائياً.

 كتب اللهُ لكُم كافي الإيمان لتعيشوا به برضا و كفاكُم الله شر اليقين أن تنظُروا لقُبح الدُنيا و ما أودِع به من أسرار لكرهتُم الدُنيا و ما عليها.

لا أعرف و أصبحتُ لا أُريد أن أعرف ولكني على يقين بأن بعض الأبواب الأفضل أن لا تُطرق لأن بعض الإجابات أصعب من أن تُسمع ، و لعلك كُنت سهواً و بغفلة ومن غير عِلم بين فكين الوحش من قبل و كُنتَ تظُن بأنهُ ملاكك الحامي و تُفشي لهُ بِأسرارك فأنجاك الله و أنت غافل ، لعل من كان يُجالسك بالأمس يملُك كُل الصفات السيئة اللتي استعذت به يوماً فكفاك الله شرا هذه النظرة الحقيقيه.

رزقكُم الله من الطُموح و الإقدام و الشجاعة أن تُعمروا به الكون أجمع و لكن من الزُهد و الرِضا بأن تدوسوا الدُنيا تحت أقدامِكُم. أنار الله طريقكُم بكُل جميل و رزقكُم الله الرفقة الصالحة اللتي خلق الله الجنان جزاءاً لها لتبتهج نفوسكم و تعينكم على أمور الدنيا.

سيظن القارئ بأن الحياة لا تلُفها إلا المصاعب و لكن لو تحاكمنا مع الزمن و فُتحت صُحف الحياة لخجلنا و صممنا عن الكلام أمام اللهحياءاً و رهبة وهو الذي كتب لنا السعادة في الدنيا أضعاف مضاعفة ،ولكن لن يتعجب الله من ذلك و  هو شيءٌ متوقع من أبناء آدم عليه السلام اللذي رأى الله عياناً جهاراً و رأى الملائكة و عرش الرحمن و كُرمَ على سائر خلقه و أُمرتُ جميع مخلُوقاتِ الله بالسُجود لهُ تعظيماً و إجلالاً ، وللأسف لم يرضى أبينا آدم و لم يقنع بكُل ذلك و بجميع أشجار السماء اللتي لا عد لها و لا حصر و نظر إلى شجرة واحدة تلك اللتي حُرمت عليه. ولكن مع كُل ذلك سيظلُ الصبر على الشيء أصعب سلوك إنساني على هذه النفس البشرية و لذلك قال الرسول صلى الله عليه و سلم ( ما أعطى أحد عطاءً خيراً و أوسع من الصبر) ، و لذلك قال الله سبحانهُ و تعالى ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) تخيل أن تدخل الجنة من غير حساب لأنك قد صبرت فقط على كل خُطوب الدنيا ، و هم اللذينيسألهم سيدنا رضوان حارس الجنة كيف كان صبركُم ؟ فيردوا : نحنُ إذا أُسيء إلينا حلُمنا و إذا جُهل علينا غفرنا و إذا أذنبنا استغفرنا و إذا ابتُلينا صبرنا و إذا أعطينا شكرنا فيقول ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون)

و عُذرا على الأخطاء الإملائية و اللُغوية في هذا المقال و هي من كتابة الفقيرة أدبياً قليلة الخبرة اللتي تكتُب لأول مرة بهذا الكِم.

في النهاية أنا مُتأسفة على الإطالة على مدى ثلاثين صفحة و كُل تلك التداخُلات و الجذب و الشد في الأفكارِ و السرد.

 فمن أنا لأكتُب عن الزمن و الكون و معنى هذه الحياة و الموت و البعث من جديد؟

قناعتي و تفكيري البشري الجاهل الموهوم بالمعرفة و المُتقلب كما هو حال البشر ، فأنا اليوم أُجزِم بصِحة كُل ما كتبت و لكن غداً يومٌ جديد قد يُغير كُل قناعتي فأتراجع عن كتاباتي ، فلتَمِسوا لي العُذر و أنا أعترف بأنني من أجهل الخلق و لو لا سِترُ الله لظهر جهلي و سُوءُ نفسي على الملأ.

و السبب الأساسي لكتابة كُل هذه الخاطره لكي يتفهم الجميع لماذا لهذه الإنسانة الغريبة أن تقول ” أحبج آية “.

من قلب هدى


Leave a Reply

%d bloggers like this: